قصة قصيرة تحت عنوان : { شطب عليه } للكاتب محمد الحرشي

بقلم : محمد الحرشي.

كل صباح يخرج سلة القمامة من بيته لكي يفرغها في الحاوية البلاستيكية الكبيرة المركونة على رصيف الشارع الكبير.. عبارة : “الرجال قوامون” صحيحة في مثل هذه المهام ، التخلص من الأزبال أمر محسوم على طول أيام الأسبوع..

بعد الستين من عمره، قرر السكن في شقة فوق أديم الأرض مباشرة، ربما عظام رميمة توجد أسفله منذ آلاف السنين، لقد أعيته الأدراج في غياب المصاعد المشتركة في عمارات المدينة الصغيرة على الشاطئ الأطلسي ، مرض مفاصل الزوجة عجل هو كذلك بتفادي كل صعود وهبوط من قاموس حركاته اليومية..

وفي طريقه إلى حاوية الأزبال كان يصادف رجلا ضعيف البنية، وراء عربة سوداء مكتوب عليها اسم الجماعة الترابية بخط ابيض جميل. فوقها ثلاث “شطابات” مكنسات مهترئة وسلة كبيرة من البلاستيك الأسود مع كيس مصنوع من مخلفات النفط الخليجي..

صاحب العربة تجاوز الستين كذلك ، نكبات العيش القاسي ظاهرة على شكله وجسده ، فقد فعل الزمان به فعلته النكراء : فقر مدقع تعكسه بدلته الباهتة التي فقدت لونها تحت أشعة الشمس الحارقة، عبارة : “الإنعاش الوطني” مازالت حروفها تقرأ بصعوبة وراء ظهره. .

فمه عبارة عن فكين بدون أسنان في وجه أصفر تخططه تجاعيد البؤس ونذوب الحرمان ، نسي الحلاقة منذ زمان، نحافته مثل نحافة الهنود من طبقة “داليت” المنبوذين، في رجليه نعلان من النوع المطاطي الرديء الذي تجانس مع باطن قدميه حتى فقد الإحساس بالألم..

وعندما اقترب الذي شطب عليه من الوظيفة العمومية من حاوية الأزبال حاول ” أن لا يسقط أي نفاية أثناء التفريغ تضامنا مع صاحب الشطابات الثلاث : الشطابة الأولى الطويلة لكنس القطع الكبيرة من أزبال تلميذات وتلاميذ المؤسسات التعليمية العامة والخاصة بعد دخولهم إلى المدرسة .

الأمهات يشاركن الأطفال في تصرفات رمي الأزبال مبررين ذلك بمقولة : ما زالوا صغارا، السلوك متوارث بسبب كثرة الشعارات .. أعقاب السجائر من فعل الرجال والشباب.

أما الشطابة الثانية فدورها كنس الأتربة بكل أنواعها، والثالثة عبارة عن رافعة يدوية لتفريغ الكل في السلة الكبيرة..

وحتى يتخلص صاحبنا من معاناته المستمرة مع عبارة “شطب عليه” قرر أن يساعد صاحب الشطايات الثلاث في عذابه اليومي دون إثارة انتباهه.. حمل كيسا بلاستيكيا متوسطا وقرر جمع الأزبال قرب المؤسسات التعليمية لمدة أسبوع من الجمعة إلى الجمعة وتصنيفها حسب الشركات المنتجة.. ياللهول!! عبارات الإغراء والتشجيع مطبوعة على أغلفة جل المواد الاستهلاكية : منتجات سهلة البلع صعبة الهضم، ضد المناعة، تباع أمام مؤسسات التربية والتكوين ..

أثار اجتهاده ، فضول النساء المزدحمات أمام الباب الرئيسي للمؤسسة التعليمية، كلهن يتابعن تحركاته بارتياب وهو يجمع مخلفات استهلاك الأطفال قرب أرجلهن..

ومن بعيد كانت تصله كلمات خطبة إمام المسجد وهو يدعو إلى سلوك النظافة مرددا المقولة المشهورة : النظافة من الإيمان.. وبعد أن فتحت المؤسسة أبوابها خرج المئات من الأطفال يتسابقون في اتجاه عربات بيع الحلويات والمشروبات التي تغري الذوق قبل عصارات الهضم .. وبعد ذهاب الكل وفراغ المكان بدأ صاحبنا الذي “شطب عليه من الوظيفة العمومية” في الكنس والتنظيف..

وكان قبل كل عملية يرفع رأسه لتحديد وجهته، لكن هذه المرة وقع بصره مباشرة في وجه رجل الإنعاش الوطني القادم من الاتجاه الآخر ، تقابل معه بالضبط أمام باب المؤسسة التعليمية وبالضبط قرب سبورة النصائح : “من غشنا فليس منا”، نسي عبارته المؤلمة التي صاحبته منذ تقاعده، ثم تقدم ليسلم على من شطب عليه تماما من الوجود بعبارة : الإنعاش الوطني .

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.