الأَسْبَاب التي مَنْعِت القطر من السماء

بوسلهام الكريني:الاسْتِسْقَاء طَلَب السُّقْيَا، عندَ تَأَخُّر المَطَر، وحُصُول القَحْط والجَدْب، فيُشْرَع للمُسْلِمين أنْ يَخْرُجُوا؛ لِيَطْلُبُوا من الله -جلَّ وعلا- أنْ يَسْقِيَهُمْ، لكن الاسْتِسْقَاء طَلَب ودُعاء، فعلى كُلّ مُسلِم؛ أنْ يكُون مُجَاب الدَّعْوَة؛ لِيَنْكَشِفَ ما بِالأمة من كرب.. جاء في سُنَنْ ابن ماجة أنَّ رسُول الله صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم قال: ((ولم ينقص قوم المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور السلطان عليهم، ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا (( فهل اسْتَشْعَر التّجَّار مثل هذا الخَبَر؟ ((ولَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ؛ إِلَّا مُنِعُوا القَطْرَ مِنَ السَّمَاء)) وللأسَف فإنَّ كثيراً من النَّاس يَتَصَوَّر أنَّهُ ليسَ بِحَاجة إلى مطر! الذِّينَ يَحْتاجُون المَطَر يَسْتَسْقُون! منْ أهلِ البَوادِي والمَزَارِع وغيرِهِم! وهذا خطأ.
فالماء أصل النماء، وهو عنصر الحياة وسبب البقاء، من الذي أنشأه من عناصره إلا الله؟! ومن الذي أنزله من سحائبه إلا الله؟ قال تعالى: [ أَفَرَأيْتُمُ ٱلْمَاء ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ آنتُم أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاء جَعَلْنَـاهُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُون] (الواقعة: 68-70)،[ وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَاء كُلَّ شيء حي أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ] (الأنبياء: 30)،[ وَهُوَ ٱلَّذِي أَرْسَلَ ٱلرّيَـاحَ نشرا بَيْنَ يَدَي رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء طَهُورًا لنُحْيِي بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا وَنُسْقِيَه مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَـامًا وَأَنَاسِي كَثِيرًا وَلَقَدْ صَرفنـاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ ٱلنَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ] (الفرقان:48 – 50)
هذه زمرة من آيات الله، تدل على عظمة وأهمية هذه النعمة.
فلا يقدر هذه النعمة قدرها إلا من حُرمها، فلنتأمَّل في أحوال أهل الفقر والفاقة التي تغلب على حياة من ابتلوا بالجدْب والقحط والجفاف والمجاعة، ولنسائل أهل المزارع والمواشي، في أي حالة من الضر يعيشون، لقلة الأمطار، وغور المياه، وهي سبب خصب مزارعهم وحياة بهائمهم.
إن للغيث أسبابًا جالبة وأخرى مانعة، هل سألنا أنفسنا ونحن في مواسم الغيث: هل أخذنا بأسباب نزوله، أم أننا بأفعالنا سببًا في منعه؟ ولنعرض شيئًا من أحوالنا، لعلها تكون ذكرى نافعة، وسببًا في تقويم أوضاعنا على منهج الله، لنحظى برزقه الذي لا ينال إلا بمرضاته، قال تعالى:[وَفِى ٱلسَّمَاء رِزْقكُمْ وَمَا تُوعَدُون] (الذاريات: 22)، والمطر أصل البركات، قال سبحانه:[وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْقُرَى آمنوا وَاتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَـاتٍ منَ ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضِ وَلَـكِن كَذبُواْ فَأَخَذْنَـاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُون](الأعراف: 96).
لقد ظهرت المنكرات، وعمت المحرمات، في كثير من المجتمعات، فلم يتمعَّر منها وجه، ولم يشمئزّ منها قلب إلا من عصم الله، قتل وزنا، ظلم وربا، خمور ومسكرات، مجونٌ ومخدرات، وفي مجال المعاملات غش وتزوير، وبخس ومماطلة ورشاوى، انتشار رهيب للمكاسب المحرمة، والمعاملات المشبوهة، وتساهل في حقوق العباد، وعلى الصعيد الاجتماعي هناك مشكلات أسرية معقدة، وعلاقات اجتماعية مفككة، ساد كثير من القلوب الحسد والبغضاء، والحقد والضغينة والشحناء، وكذلك عم التبرج والسفور والاختلاط، وما أفرزته موجات التغريب من مساوئ في النساء والشباب، مما يثير الجريمة، ويشعل نار الفتنة، ويشحذ الغريزة من مظاهر محرمة، وصور ماجنة، وأفلام خليعة، حتى ضعفت الغيرة في النفوس، وقل التآمر بالمعروف والتناهي عن المنكر، مع أنه قوام هذا الدين، وبه نالت هذه الأمة الخيرية على العالمين، والقصور في مجال التربية والدعوة والإصلاح، مع سيل من مظاهر التحلل والإباحية والعولمة والانفتاح .
فأين الغيرة الإيمانية؟ وأين الحميّة الإسلامية؟ وأين الشهامة الإنسانية؟
إن تشخيص الداء يحمل في طياته أسبابًا كثيرة، منها: غفلة العباد، وقسوة قلوبهم، وضعف إيمانهم، وانتشار الذنوب والمعاصي بينهم، لاسيما منع الزكاة، ونقص المكاييل والموازين، والتقصير في الدعاء، والإعراض عن التوبة، وإغفال الاستغفار الذي هو السبب العظيم في استنزال المطر من السماء، يقول تعالى على لسان نوح عليه السلام: [فقلت استغفروا رَبَّكُم إِنَّهُ كَانَ غَفارًا يُرْسِلِ ٱلسَّمَاء عَلَيْكمْ مدْرَارًا وَيُمْدِدْكمْ بِأَموال وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّـاتٍ وَيَجْعَل لَّكُم أَنْهَارًا] وقال سبحانه على لسان هود عليه السلام: [وَيا قَوْمِ استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ ٱلسَّمَاء عَلَيْكُمْ مدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قوَّةً إِلَىٰ قوَّتِكُمْ]ثم الاستقامة، قال تعالى:[ وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا] (الجن: 16).
فلنستغفر الله ولنتقه ولنعلم أن طلب الغيث لا يكون بالقلوب الغافلة، والعقول اللاهية، وإنما يتطلب تجديد العهد مع الله، وصدق العمل بشريعته، وفتح صفحة جديدة من حياة الاستقامة،ومع هذا كله ففضل الله واسع، ورحمته وسعت كل شيء، وعفوه عمَّ كل التائبين، فما ضاق أمرٌ إلا جعل الله منه مخرجا، وما عظم خطب إلا جعل الله معه فرجا، فمنه يكون الخوف، وفيه يكون الرجاء، وهو الذي ينادي عباده للتوبة:[ قُلْ يا عِبَادِي الَذِينَ أَسْرَفُواْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ]. ويقول سبحانه: وإني لَغَفارٌ لمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَـالِحا ثُمَّ اهتدى]، صدق الله العظيم.

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.