الدكتورة وادي تكتب: هل العقاب الجسدي ضرورة تربوية؟

بقلم الدكتورة خديجة وادي:

دكتورة في علم النفس وأستاذة جامعية بكلية ابن طفيل بالقنيطرة

 

قد يتبادر للذهن بأن حدث أستاذ تارودنت أمر غير متوقع بل وربما غير مستساغ؛ إلا أنه يعبر من دون شك عن تحولات اجتماعية لوسط لا يؤمن كثيرا بحياة نفسية خاصة للطفل، والتي تجعله لا يشبه أيا كان، لأنه ليس مجرد نسخة عن شخص آخر؛ فهذه القضية نبهت المغاربة إلى ما يحمله العقاب الجسدي من جرم في حقه، الأمر الذي حولها إلى نقاش غير معلن حول مدى شرعية الفعل التربوي القائم على العقاب، فسواء كان شخص الأستاذ بريء من حيث ارتكابه لهذا الفعل أو لم يكن كذلك إلا أن الواقعة حركت الرأي العام في اتجاه التفكير في واقع من نوع خاص يلقي بظلاله على بعض من مظاهر فشل هذه المنظومة،  فقد يرى البعض العقاب ضرورة تربوية، بل إن الحديث عن مفهوم التأديب يحيل إلى استعمال ممنهج للعقاب في كل الأوساط المغربية وليس فقط ضمن الوسط المدرسي، فهناك قول رائج يتردد كثيرا، لم يتم انتزاعه بعد، ألا و هو: “العصى لمن يعصى”. لذلك أرى بأن هذا النقاش رغم ما يحمله من مأساة سواء بالنسبة للطفلة أو حتى الأستاذ أو عائلة الطفلة، قد أخرج قضية العقاب الجسدي من الظل ليتم التفكير من جديد في سبل انتزاع جذوره أو على الأقل الحد من استفحاله.

لقد كنت دائما أرى في عقاب الطفل المعلن اجتماعيا مأساة تكسرت عليها أحلام أجيال متعاقبة والتي عاشت على هامش الحياة نظرا لما أحاط بها من عنف أودى بقدراتها على التميز والخلق و تحقيق الذات، أجيال كرهت المدارس، وشاخت سريعا باسم التأدب، لقد استكانت وسلبت إرادتها فما كان باستطاعتها أن تناقش رأيا أو تتخذ خطوات جريئة لتعلن عن تميزها وتفرد اختياراتها، فمن من المغاربة لم تعبث به يد معلم أو أستاذ أو حتى مدير مدرسة؟ …ومن منا لم يخرج من منزله وهو مقتنع بأنه فاشل أو يحمل فوق رأسه أذنين طويلين؟ لأنه غالبا ما ينادى بـ ” أجي يا الحمار” ويسمع كل أشكال السب والشتم ويتلقى الصفعات على القفى والوجه، كما يتلقى القبلات بنفس القوة والشراسة، إنه جسم الطفل المباح  مادام الهدف هو التأديب والتهذيب خصوصا إذا كان ” ناقصو الترابي”.  من أجل ذلك كله أعتقد بأن موضوع العقاب الجسدي، وبغض النظر عن ظروف اختياره، يستدعي تحليلا خاصا  تتداخل فيه أبعاد متعددة، لكن البعد السيكولوجي وما يخلفه من عواقب تمتد لتشمل الحياة كلها يستلزم وقفة خاصة جدا، فماذا نقصد بالعقاب عموما؟ وهل يمكن الحديث عن أهميته أم عن عواقبه التي قد تعيق التطور السوي لهذا الطفل؟

يتم تعريف العقاب من قبل لجنة الأمم المتحدة لحقوق الطفل على الشكل التالي: “العقاب البدني هو كل عقوبة تنطوي على استخدام القوة البدنية وتهدف إلى إلحاق درجة معينة من الألم أو الإزعاج، مهما كان طفيفًا. ”

لكن ما يجب التنبيه إليه هو مؤثر السن كذلك، فكلما كان العقاب في سن مبكرة كلما ارتفعت مخاطره، فالطفل الذي يتلقى ضربات موجعة خلال سنته الأولى والثانية قد يكون مهددا أكثر من غيره بمشاكل نفسية عميقة من فئة الذهان فالمرحلة تحيل إلى هشاشة نفسية كبيرة، ومن المفترض أن  تقوم الأم بدور جد مؤثر، فإما أن تدفع الطفل في اتجاه السواء أو اللا سواء، أما مرحلة ما بعد السنتين وإلى ست أو سبع سنوات فهي مرحلة تعرف ظهور الأوديب، وفشل النمو فيها يعني ظهور ملامح العصاب؛ الفشل بمعنى تلقي العقاب بشكل يفقد الطفل توازنه النفسي المفترض. ومن خلال الدراسات التي قام بها الاتحاد الكندي لرعاية الطفل، فإن ثلاث دراسات من أصل خمسة كشفت عن المشاكل النفسية الكبيرة التي يعاني منها الأطفال المعنفون، فالعقاب قد يأتي بنتائج فورية لكنها ليست دائمة، بل إن طفل المرحلة الابتدائية (مثلا) في هذه الحالة يقع تحت ضغط الخوف عوض أن ينمي إحساسا نقديا يقوم على صورة إيجابية عن الذات، والتي تعتبر مصدر كل قدرة على بناء قيم إيجابية.إن نمو الطفل العقلي والوجداني يتعرض لخطر فعلي جراء العقاب. فتعرضه للتنكيل الجسدي الدائم مثلا قد يعرضه لإعاقة تحد من حيويته. كما قد يعيش قلقا دائما يتسبب في بعض المظاهر الشائعة والمتمثلة في الحركية المفرطة مع تشتت الانتباه وسرعة الانفعال، أو على النقيض من ذلك، ظهور ملامح الانسحاب و الانطواء، مع قلة البديهة. هذا ما يؤدي حتما إلى فقدان الثقة في الكبار مما يترتب عليه مشاكل جد عميقة مع كل المحيطين به من آباء ومدرسين…

إن الخوف من العقاب يجعله دائما في موقف المتجنب له، كيفما كانت الوسيلة، من كذب وغش وخداع… عوض أن يوجه الانتباه إلى ما ينهي عليه هذا العقاب، الشيء الذي يفسر تكرار نفس الفعل مرارا وتكرارا. بل ويفتح المجال أمام تكرار العقاب بشكل أكثر حده وأكثر شراسة.  بل إن الطفل يتعلم آنذاك أن يدافع عن نفسه عبر العنف، “فالعنف  يولد العنف”

فإذا كنا نميل إلى “شرعنة” العنف في مدارسنا فبالأحرى أن نضع أنفسنا في جسم طفل، وأن نتساءل بعد ذلك : هل يحق لأي كان أن يجعلنا موضوعا للعنف؟ هل نقبل أن نهان أو أن يمارس علينا العنف بشتى أنواعه، حتى وإن كان بحجة التهذيب ؟

بل يجب أن ننتبه جيدا إلى ما يحسه هذا الطفل، فهو من داخل جسمه الصغير يشعر بكراهية غير مبررة، فليس لعقله القدرة على استيعاب أسباب هذا العنف، إنه وككائن محدود القدرات يبني معارفه و يحصل قدراته عبر وثيرة خاصة لا تماثل أي إيقاع نفسي أو حسي حركي آخر، لذلك فكل ما يستدعيه التفاعل مع الطفل هو الإنصات لهذا الإيقاع ومن تم تقديم معارف توافق هذه القدرات الخاصة، فكل طفل يجب أن يكون من حقه أن ينمو  بتوازن ، بمعنى احترام خصوصيته (و كما سبق أن قلت ذلك) التي تجعله فردا خاصا لا يشبه أحدا ومن المفترض ألا يقارن بأحد؛ هذا بالفعل ما برهنت عليه “مونتيسوري” حينما استطاعت أن تجعل أطفالا يعانون تخلفا عقليا، يحرزون نتائج مرضية دراسيا.

BIBLIOGRAPHIE

Alice Miller, C’est pour ton bien, Aubier-Montaigne, 1998

Olivier Maurel, La Fessée : Questions sur la violence éducative, La Plage, 2004. ] Cf article fort

intéressant de Jean Legal « Châtiments corporels ou intervention physique » Journal du Droit des Jeunes n° 185 mai 1999

Violences au sein de la famille, recommandations n° R (85) 4adoptée par le Comité des Ministres du Conseil de l’Europe le 26 mars 1985

  Le Point” n° 1304

Kaiser et J.Sklar Rasminsky.(1999). Relever le défi : Stratégie efficaces auprès des enfants présentant des problèmes de comportement dans les milieux de la petite enfance. FCSG. Otawa  

4 Comments

  1. فهذا لا نسميه عقاب في حق التلميذة بل جريمة جسدية لأن رغم كل شئ فهي بمثابة الابنة و الأخت و الام و الزوجة فعند التفكير في العقاب الذي يعد ضرب فهذا يجعل الطفلة في حالة من الخوف و القلق الذي ينتج فزع و عدم قدرة ذلك الطفلة على ان تخوض معركة دراسة مرة أخرى لأنها أخدت نقطة في ذهنها و هو العنف الجسدي،. و أشكرك أستاذتي على هذا المقال القيم و على مجهوداتك الجبارة ♥️♥️♥️

  2. السلام عليكم
    سلمت أناملك أستاذتنا، صحيح ان تعنيف طفل ما زال لا يدرك ما السبب في تعنيفه يؤدي غالبا الى مشاكل نفسية تنمو معه، -ولو استطاع تحملها، يبقى ذلك لفترة معينة – ولا بد في مرحلة من مراحل نمو الانسان ان ينفجر إما داخليا؛ ويتسبب ذلك في قتل همته وعزيمته ليتحول ذلك إلى خوف يقيد تصرفاته وقدراته لينتج إنسانا فاشلا في حياته، وذلك غالبا ما يؤدي إلى انتحار ، وإما خارجيا؛ ويقابل العنف بالعنف، كما تفضلتم، وهذا هو السائد في مجتمعنا، لذلك نجد الوالد الذي مورس عليه التعنيف في الصغر غالبا ما تجده يمارسه على أولاده، دون ان يعي بالأسباب، مما نتج عندنا مجتمع عنيف في جميع مجالاته المؤسساتية، وأرى ان على الآباء بالخصوص لان الاسرة نواة المجتمع، اذا أرادوا ان يتجنبوا هذا التأديب المعنف، عليهم بالتعامل مع الامر بنوع من التعليم والتلقين، بحيث لا يسمحوا لأنفسهم بأن يشاهدوهم اولادهم في صورة عنف مع اَي كان ، نعم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( … واضربوهم في سبع ) الا ان الا مر يتعلق بالصلاة في ذلك، لكن كلي يقين بأن الآباء لن يحتاجوا ابدا الى ضربهم إذا كانوا يشاهدونهم في المنزل يقيمون الصلاة ويلتزمون بأوقاتها، وقس على ذلك الدراسة، بحيث إذا وجد الأطفال آباءهم يلازمون الكتب والدراسة، فكن على يقين أن الطفل سيترعرع وهذه الأجواء الدراسية وسيحبها دون ضرب او تعنيف، بل سيحتاج فقط الى نوع من التنظيم لأوقاته.
    الهداية من الله، آمنا بذلك .
    الشكر موصول لك أستاذتنا .

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.