باختتام السنة التشريعية الخامسة من الولاية التشريعية العاشرة، تكون التجربة البرلمانية المغربية قد بصمت على مسار متطور يمتد لأزيد من خمسة عقود، توخى تكريس خيار الديمقراطية التعددية بشكل جعل منها تجربة ذات خصوصية تميزها عن غيرها من التجارب.
وعرف البرلمان المغربي تطورات كثيرة في بنيته أو في وظائفه من خلال مختلف المتغيرات التي همت مختلف دساتير المملكة، حيث تم اعتماد نظام الثنائية البرلمانية في بداية التأسيس سنة 1963 مع صدور أول دستور بعد الاستقلال في 1962، والانتقال إلى نظام الأحادية المجلسية بمقتضى دستور 1970، ثم العودة إلى نظام الثنائية في دستور 1996.
فبعد توالي المحطات التي مرت منها التجربة البرلمانية المغربية، شكل دستور 2011 محطة نوعية في تعزيز وتقوية صلاحيات البرلمان، وكرس مكانة السلطة البرلمانية باعتبارها المصدر الوحيد للتشريع، فضلا عن اختصاصاتها المهمة في مجال المراقبة البرلمانية، ودورها في تقييم السياسات العمومية، إلى جانب أدوار هذه المؤسسة في إطار الدبلوماسية البرلمانية وانفتاحها على المحيط الوطني الدولي.
وهكذا، فبعد دستور 1962، انطلقت، مع أولى الانتخابات التشريعية، الولاية التشريعية الأولى، (1963-1965) ببرلمان بغرفتين، ممثلتين في مجلس النواب الذي كان يضم 144 عضوا انتخبوا بالاقتراع العام المباشر لمدة أربع سنوات، ومجلس المستشارين الذي بلغ عدد أعضائه 120 عضوا انتخبوا بالاقتراع العام غير المباشر على أساس تجديد نصف المجلس كل ثلاث سنوات.
وتميزت الولاية التشريعية الموالية (1970-1971) ببرلمان بغرفة واحدة ممثلة في مجلس النواب الذي ضم 240 عضوا انتخب 90 منهم بالاقتراع العام المباشر، و90 من ممثلي الجماعات المحلية، و60 من الغرف المهنية.
واستمرت التجربة البرلمانية المغربية بغرفة واحدة خلال الولايات التشريعية الثالثة (1977 -1983)، التي بلغ فيها عدد أعضاء مجلس النواب 267 عضوا، والرابعة ( 1984 -1992 ) بمجلس من 306 أعضاء، ثم الولاية التشريعية الخامسة، (1993-1997) بمجلس من 333 عضوا.
وبالمصادقة على دستور 1996، انتقل المغرب مجددا إلى نظام الغرفتين، ليتم خلال الولاية التشريعية السادسة، (1997-2002) انتخاب برلمان بغرفتين ممثلتين في مجلس النواب المكون من 325 عضوا انتخبوا بالاقتراع العام المباشر لمدة خمس سنوات، 295 عضوا منهم انتخبوا على صعيد الدوائر الانتخابية المحلية، و30 عضوا على الصعيد الوطني، إلى جانب مجلس المستشارين الذي ضم 270 عضوا انتخبوا لمدة تسع سنوات، ثلاث أخماس المجلس انتخبتهم في كل جهة من جهات المملكة هيأة ناخبة مكونة من ممثلي الجماعات المحلية، أما الخمسان الباقيان فانتخبتهم هيئات ناخبة من المنتخبين في الغرف المهنية وأعضاء انتخبتهم على الصعيد الوطني هيأة ناخبة من ممثلي المأجورين.
واستمر الأمر بنفس التركيبة خلال الولاية التشريعية السابعة 2002 -2007 والولاية التشريعية الثامنة 2007 -2011.
ومع دستور 2011، أصبح البرلمان خلال الولاية التشريعية التاسعة (2011 -2016) يضم مجلس النواب الذي يتألف من 395 عضوا ينتخبون بالإقتراع المباشر عن طريق الاقتراع باللائحة، ومجلس المستشارين الذي يتألف من 120 عضوا، 72 منهم يمثلون الجماعات الترابية، و20 عضوا يمثلون الغرف المهنية، و08 أعضاء يمثلون المنظمات المهنية للمشغلين، و20 عضوا من ممثلي المأجورين.
وتضمن دستور 2011 مجموعة من المقتضيات تهدف إلى تعزيز نظام الغرفتين بالبرلمان من خلال تقوية صلاحياتهما، من خلال منحه اختصاصات جديدة كفيلة بنهوضه بالمهام التمثيلية والتشريعية والرقابية، من قبيل تقييم السياسات العمومية، وتوفير آليات ناجعة للمراقبة البرلمانية بتخفيض النصاب الضروري لملتمس الرقابة، وتشكيل لجن تقصي الحقائق والإحالة على المحكمة الدستورية، وطلب عقد الدورات الاستثنائية.
كما منح تقديم رئيس الحكومة لعرض حول العمل الحكومي والاجابة عن الأسئلة المتعلقة بالسياسة العامة، حيث أصبح مجلس النواب يتبوأ مكانة الصدارة، بتخويله سلطة الفصل في المصادقة على النصوص التشريعية.
ومنح الدستور أيضا للمعارضة البرلمانية وضعا خاصا وآليات ناجعة لتعزيز دورها ومكانتها في إثراء العمل البرلماني. وقد عمل الدستور على توسيع صلاحيات الغرفة الأولى ومنح دور متميز لمجلس المستشارين في ما يتعلق بالقضايا ذات البعد الجهوي، أو تلك المتعلقة بما هو اجتماعي واقتصادي، وهو ما يجعله فضاءا لطرح المواضيع، التي تهم الانشغالات اليومية للمواطنين.
ففي ما يخص الجانب التشريعي، جاء دستور 2011 ليرفع من سقف المبادرة التشريعية، وأصبح هذا المجال اختصاصا شبه حصري للبرلمان، حيث توسع مجال القانون، ليرتفع من 30 مجالا في دستور 1996، إلى أكثر من 60 مجالا في الدستور الحالي، مما بوأ المجلس مكانة الصدارة، بتخويله سلطة الفصل في المصادقة على النصوص التشريعية.
وتودع مشاريع القوانين التي تقدمها الحكومة بالأسبقية لدى مكتب مجلس النواب ما عدا تلك المتعلقة بالجماعات الترابية والتنمية الجهوية والقضايا الاجتماعية التي توضع بدورها بالأسبقية لدى مكتب مجلس المستشارين. وبدورهم يتقدم أعضاء البرلمان بمقترحات القوانين.
وتحال مشاريع ومقترحات القوانين على اللجان المعنية بمجلسي البرلمان قصد مناقشتها والمصادقة عليها. بعد ذلك تتم دراستها والتصويت عليها في الجلسات العامة ليتم إحالتها على إحدى المجلسين حسب طبيعتها. وفي حال وجود اختلاف بين الصيغة التي صادق عليها كل من المجلسين يعود لمجلس النواب التصويت النهائي على النص الذي تم البت فيه.
أما في ما يخص الجانب الرقابي، فيمكن للجان الدائمة المعنية بمجلسي البرلمان أن تطلب الاستماع إلى مسؤولي الإدارات والمؤسسات والمقاولات العمومية، بحضور الوزراء المعنيين، تحت مسؤوليتهم، كما يمكن للمجلسين أن يشكلا لجانا مؤقتة لتقصي الحقائق تقوم بإيداع تقارير حول الوقائع التي أقيمت لأجلها لمناقشتها خلال جلسات عامة والبت فيها.
وتخصص بمجلسي البرلمان جلسة عمومية أسبوعية للأسئلة الشفهية وأجوبة الحكومة عليها، كما تقدم الأجوبة على الأسئلة المتعلقة بالسياسة العامة من قبل رئيس الحكومة، وتخصص لهذه الأسئلة جلسة واحدة كل شهر، وتسمح الأسئلة الكتابية للنواب بمتابعة القضايا ذات الطابع المحلي.
ويعرض رئيس الحكومة أمام البرلمان الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة، وتخصص جلسة سنوية من قبل البرلمان لمناقشة السياسات العمومية وتقييمها.
إلى جانب هذه الأدوار، يعمل البرلمان، في إطار وظيفته الدبلوماسية، وبناء على المقتضيات الدستورية الجديدة التي تمكن المؤسسة التشريعية بمجلسيها من التحرك على المستوى الدبلوماسي، أيضا من أجل دعم وتثبيت الحضور الدولي للمملكة، والدفاع عن القضايا الوطنية العادلة، وتعزيز التعاون الدولي، لا سيما من خلال مجموعات الصداقة البرلمانية، التي تمثل رافعة مهمة للتعريف بالقضايا ذات الأولوية بالنسبة للمملكة والقضايا التي تشغل المجتمع المغربي سواء في المجال التنموي أو بخصوص المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ويبدو أن التجربة الديمقراطية البرلمانية المغربية، التي تستمد ركائزها من التراكمات التي تحققت على مدى نصف قرن، رسمت لنفسها مسارا متفردا وأضحت نموذجا متأصلا في الدستور 2011 الذي سعى الى تكريسها كواقع وليس كشعارات ظرفية.
قم بكتابة اول تعليق