الدكتورة وادي تكتب: الأم… مقاربة تحليل نفسية

بقلم الدكتورة خديجة وادي:

دكتورة في علم النفس وأستاذة جامعية بكلية ابن طفيل بالقنيطرة

 

ما المقصود بكلمة أم؟  

الأُمُّ الشيء يَتْبَعه ما يليه . والجمع : أُمّات ، وأُمّهات .
ويقال : هو من أُمَّهات الخير : من أُصوله و مَعادنه .
ويقولون في الذَّمّ والسَّب : لا أُمَّ لك ، وقد تكون للمدح و التعجب .
وأُمُّ القرآن: فاتحته .
و أُمّ الكِتاب : اللوح المحفوظ .
وأُمُّ النجوم : المَجَرَّة .
يقال : ما أَشبه مجلسك بأُمِّ النجوم

تلتقي هذه التعاريف في القول بأن مفهوم “الأم” يستجيب لمعنى القيادة بل إنها تنتمي لجدر كلمة أخرى هي كلمة “إمام”، وبذلك تحمل معنى الإمامة، لكن السؤال المؤسس هو: هل كل امرأة هي قادرة على أن تحمل هذا المعنى؟  ثم بماذا توحي من ناحية التحليل النفسية؟

قد يبدو  من السهل الحديث عن الأم، لا أقول الأم كذات و إنما كمفهوم، لكن الأمر سرعان ما يبدو ملتبسا.

الأم كمفهوم تحليلي، بنية تحيل إلى الرحم، إنها أول موضوع للحب، ومنه تنبثق أولى التمثلات الشعورية و اللاشعورية ، و لأنها دائما موضوع رغبة لا تجد تفسيرها إلا ضمن نوع العلاقة التي تجمعها بالطفل، بل إن “فرويد” عبر عن حبه غير المنقطع للأم بينما جعل المرأة عموما موضوعا للكراهية ، لقد وقع في حيرة رهيبة حينما تساءل باستغراب:  ماذا تريد النساء؟

و بهذا أعلن صراحة حيرته حين دعى ابنته “أنا فرويد” للتنقيب في المكامن الخفية  لسيكولوجية الفتاة،

فقد شكلت ذات المرأة- الأم- استفزازا و تحديا كبيرا، مادامت الجنسية الطفلية عرفتها بالنفي

من الناحية الإكلينيكية

1-  إن الاضطرابات العميقة لدى الفرد لا تجد تفسيرها إلا في علاقته بشخص الأم.

2- عدم اهتمام فرويد بالأرضية الذهانية يجد تفسيره في علاقته بعدم اهتمامه بقطب مهم ضمن البنية الأسرية،  هي البنية الأنثوية.

من الناحية النظرية:

 منطق التقابل:

تحدث فرويد كثيرا عن البناء النفسي ذو الثنائيات المتقابلة:

الألم/ اللذة؛ قضيب/لاقضيب؛ شعور/لا شعور؛وعي/لا وعي؛ يقظة/نوم؛ عقل / لا عقل؛  حياة / موت…

نجد هذه المفارقات حاضرة بقوة من  داخل لعبة الحضور و الاختفاء ، فهناك شيء يختفي و يظهر، لذلك تنتمي المرأة ، الأنثى للقطب الخفي، و هي تحمل نفس خصائص: اللاشعور، اللاوعي، الوجدان، النوم، الموت، إنها الجنة المفقودة التي طردنا منها حسب تعبير “فرويد “، كما أنها تمثل القطب الأقدم من حيث البناء ، وحياتنا داخل المشيمة تؤسس كذلك للرحم كأقدم جهاز .

قدم و تجذر الصراع النفسي:    

إن هول ما نخوضه من صراع، يتجذر في بنيتنا النفسية، بل إنه يحكم وجودنا عموما، أي أن ما يؤسس ضمن هذه البنية القديمة زمنيا ، يعمم على بنياتنا و علاقاتنا الموالية ، مع الإخوة ، مع جماعة الأقران ، في الأسرة الموالية… وهو بالضبط ما يجعلنا نتأرجح بين اللذة و الألم ،  لكن كيف يمكن تفسير هذا المعطى المربك؟

يقدم لنا “فرويد” تأسيسا نظريا “للعصاب” ، ويقول بنوع من الثقة:  “كلنا عصابيون لكن بدرجات”

و تعبر الشخصية “العصابية” عن بنية هشة تعيش في صراع دائم ، و يمكن أن نتابع بشكل مبسط ، ما يؤسس لهذا القلق النفسي الذي يحتكم لمنطق “لاشعوري”، أي دون أن يكون الفرد واعيا بما يحدث. (انظر المقال السابق-الصراع الخفي بين الطفل و الأب-)  فهناك أهمية خاصة لمرحلة ما قبل “الأوديب” بالنسبة للفتاة، نظرًا لأن هذه المرحلة تسمح بجميع عمليات التثبيت والكبت التي نعيد إليها أصل الخلايا العصبية، فمن الضروري أن نعود إلى عالمية الأطروحة التي بموجبها يكون الأوديب هو نواة العصابات.

يمكننا توسيع محتوى “الأوديب” ليشمل جميع علاقات الطفل مع كلا الوالدين؛ يمكننا أيضا أن نأخذ في الاعتبار هذه الخاصية.  فالفتاة تصل إلى وضع “أوديبي” طبيعي وإيجابي فقط عندما تتغلب على فترة سابقة يسيطر عليها المنحى السلبي ، ففي الحقيقة ، خلال هذه المرحلة ، ليس الأب بالنسبة للفتاة الصغيرة سوى منافس مزعج حتى لو لم تصل عداوتها مع الأب إلى درجة ما يميز سلوك الأولاد اتجاه والدهم. فلقد تنازل فرويد لفترة طويلة عن توقع حدوث توازن وثيق بين التطور الجنسي للذكور والإناث.

لكن هناك قلق أعمق ، هو قلق يحمل سمات غير محددة الملامح ، بل إنه خارج اللغة ، يتعلق الأمر بالقلق الذهاني، و الذي أولته ملاني كلاين أهمية خاصة ، لأنها كانت تحمل ملامحه داخلها ، فلقد عانت  من اكتئاب ارتبط بعقد نفسية قديمة جدا لم تجد حلا ، لذلك أسست لما سمته لاحقا بعقدة “أورست”

عقدة  أورست:  Complexe d’ Oreste

اكتسبت نظرية ميلاني كلاين” قيمة نوعية ، فمن خلال ”أسطورة  أورست“  تم رسم ملامح هذه الرغبة العميقة عمق مرحلة الطفولة المبكرة ، بنوع من المفارقة ، فالأم هنا موضوع غير حقيقي  وقتلها يمثل خلاصا ومصدرا لحرية “أوريست” لكن الثمن كان ثقيلا ، إنه الندم والإحساس بالذنب ثم الاكتئاب و عبر تلك المسرحية اليونانية القديمة ظهر منطق خاص للفرضيات التي عرضتها “ميلاني كلاين” ففي البداية تم وضع تقديم للقدر الخاص الذي ميز حياة “أوريست” فهو إبن “آغميمنون”” الذي قدم إبنته قربانا للآلهة”إيفيجيني” من أجل أن يستطيع الاغريق الإبحار بسفنهم الحربية التي قيدها غضب “نبتون” و قد  قتل ” أوريست ” أمه “كليتمنستر”  من أجل أن ينتقم لموت أبيه ، حيث دبرت هذه الأخيرة قتله انتقاما لابنتها.

الصراع داخل البنية الأسرية يؤسس لصراعات أعمق، أشكال العنف الفعلي و الرمزي المستفحل داخل الأسرة قد يؤدي غالبا إلى انفجار فعلي أو رمزي “للزوج Le couple “، و التي تتضح في الرغبة الرمزية للابتعاد عن الأم من خلال اكتساب آلية اللغة، و تسجل لحظة الفطام قمة التأسيس لهذه اللحظة الناجمة عن الرغبة في إقصاء الألم، و التي تدشن بالانفتاح على قطب الأب.

التأسيس للأب يظهر منذ اللحظة السابقة، فإما أن يكون الولي، أو العدو. الأم تؤسس لهذا التمثل عبر ما يصل إليها هي نفسها من إشعاع صادر عن الأب، العلاقة بين الطفل و الأم علاقة لا لغوية يلعب فيها الوجدان الدور الأساس، فعبر الوجدان تمر للطفل كل التمثلات عن الأب، سواء الإيجابية أو السلبية، إنها كالموصل الكهربائي عبره تمر جميع الشحنات، سواء الحب أو الكراهية. لذلك – و قبل أن يصل الطفل إلى مرحلة الانفتاح على الأب- يستطيع أن يبني تمثلا عنه.

إن الطفل الذي يستطيع أن يمر بسلام من مرحلة الرضاعة لديه القدرة لأن يتجاوز الأوديب بكل أمان، بينما فشل المرحلة الأولى يؤدي إلى هشاشة نفسية ترتبط بهذه المرحلة القديمة. إذا فالسواء يرتبط بما قد تعيشه هذه الأم نفسها من سواء ضمن نفس المرحلة. لذلك قد نتحدث عن نماذج عن للمرأة، و لا يمكن أن تتأسس الأم إلا من خلال توافر شروط معينة لهذه الأنثى لكي “تزهر” ، فليست كل أنثى قادرة على أن تحصل على صفة الأمومة، بل إنها حتما لا تحقق أمومتها من خلال بعدها البيولوجي( القدرة على الإنجاب) فحسب بل من خلال إحالاتها النفسية.

ما الذي يمكن أن يعزز أو يمنع هذا الرابط وما هي التحديات؟ هل يمكن أن نتحدث عن حب غريري؟ أي هل هو فطري؟

تبدأ هذه الرابطة في الانبثاق حتى قبل الحمل ، أي من خلال علاقة الأم مع الشخص الذي سيكون والد الطفل، أي أن هذا الطفل هو ثمرة تآلف بين رجل وامرأة، و  في الكثير من الأحيان ، فالأم ، بما ستحلم بالطفل قبل أن يأتي للعالم، كما ستعلق عليه عددًا معينًا من الأوهام و التوقعات أو حتى الآمال.  ثم بمجرد أن يتم الحمل ، ستبدأ علاقتها مع حملها في التشكل على إثر علاقتها بشريكها، و إحساسها اتجاه حملها يحمل ملامح علاقتها مع هذا الأخير. أي أن هذه العلاقة تحدد مدى رغبتها أو عدم رغبتها في هذا الطفل. ثم بعدها يظهرالطفل، و ستشاركه كل تجاربه اليومية مما قد يساهم في دعم  الرابط الوجداني: الكلام ، المظهر ، المداعبات ، اللمس ، التفاعل العاطفي ….و سيتم تقاطع ذلك بمراحل الفصل ، مثل الفطام أو اليوم الأول في الحضانة مثلا، و من المتوقع أن يتم ترميم هذه العلاقة في حالة قدرة الأم- و لو النسبية-  على بناء وسط سوي لنمو الطفل.

 ما هو دور هذا الرابط في بناء الطفل؟

إن هذه العلاقة السوية تسمح للطفل لأن يشعر بأن لديه مكان داخل البنية المستقبلة ( الأسرة )، وأنه كائن محبوب و محمي. هذا المبدأ ضروري لتحقيق الأمن والاستقرار. وبالتالي ، فإن رابطة الأم / الطفل الجيدة بما فيه الكفاية ستشارك بنشاط في بناء هوية الطفل واحترامه لذاته؛ وعلى العكس من ذلك ، فإن الطفل الذي لم تكن له علاقة إيجابية مع والدته، في سن مبكرة ، قد يعاني من قصور عاطفي وصعوبات قد تطال قدراته على نسج علاقات واقعية بناءة

كيفية تعزيز الرابطة بين الأم والطفل؟

تعتمد العلاقة الجيدة على مدى توفر الأم وحساسيتها لاحتياجات الطفل. لذلك يتطور عندما تكون الأم حاضرة وقادرة على إقامة تفاعل عاطفي مطمئن معه، كما لا ينبغي التغاضي عن أهمية ملامسة الجسم ، وهو أمر ضروري. و لكن هذا لا يعني أنها يجب أن تكرس كل وقتها له، بل على العكس يؤكد Winnicot بأنه من المهم أن تكون الأم “جيدة بما فيه الكفاية” ، وهذا يعني أنها ترحب بطفلها بلطف واحترام بينما تعتبره متميزًا عنها مما يلتقي مع معنى الإمامة أي أنها تدفع بنموه في اتجاه الاستقلالية، و الرشد بالمعنى اللغوي، عوض الارتباط بالأم حتى مراحل متقدمة من الحياة بشكل يستحيل معه تشكيل بنية أسرية خاصة، لذلك يجب على الأم أن تحترم طفلها ، و أن تثق به ، وأن تعيش حياتها الخاصة بأفضل طريقة ممكنة لمساعدته على النمو قدر الإمكان، كما على الأب أن يمثل النظام، و يجب أن يمنح لطفله الثقة ليشغل مكانه داخل العالم عبر المساهمة في توفير مجال مريح للنمو السوي.

و لأننا لن نقبل بالوقوف عند الأعراض، بل نتوخى النبش في اللاشعور ، و في العلاقة مع الأم التي تشكل نواة الدينامكية النفسية اللاشعورية (الرغبة الدائمة للعودة للمشيمة أو لحالة الموت)  فهذه المقاربة تؤسس لفعل استباقي ، يراهن على تقديم فهم متقدم لدور الأم  التي تقوم بمسؤولية جسيمة لبناء شخصية سوية ؛ بل و جعلها ذات قدرة على بناء السواء وذلك بدعمها و حماية حقها في الفعل الحر خارج الأدوار النمطية  المحبطة لفاعليتها، مما يدعم تحملها لدورها جنبا إلى جنب مع الأب، فمن المفترض أن تجمعهما علاقة قائمة على الدعم و المساندة في إطار قيم المحبة و التواصل و هو شيء مستحيل في مجتمعات عديدة، حيث المرأة مجرد كائن مسخر لتلبية رغبات أو متطلبات الزوج  بل إنها في الأغلب الأعم لا تحضا بتعليم لائق يؤهلها لأن تعي أهمية هذه العلاقة مع ذاتها و مع الآخر الذي يشكله في مقام أول الزوج ثم بعد ذلك الطفل ، هذا الطفل الذي يبدي حاجة بيولوجية و نفسية  تفرض خلق بيئة قادرة على احتضانه ، و هذا  الفعل يبدأ منذ أولى مراحل وجوده داخل المشيمة ،و مع أول دقة من دقات قلبه الذي  يؤرخ نوعا ما  لبداية حياة جديدة.

 

 

 

BIBLIOGRAPHIE

 

 Sigmund Freud. Cinq leçons sur la psychanalyse. P.B.P, Paris, France, 1969

 Sigmund Freud : Abrege en psychanalyse.  PUF. 1978

Julia Kristiva: « le modèle  freudien de la sexualité infantile aujourd’hui ».Société psychanalytique de paris. Janvier 2001 

        Gung : l Ame et la vie. Librairie Générale Française. Paris. 2013

 Par Julie Caron : Comment se construit le lien mère/enfant ? Magicmaman. Bébé

    Etre maman

 

 

 

 

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن


*


هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.